(الذبيحة) أحدث عمل روائي يصب في نهر المقاومة
أمين مرسي
(نشرت في مجلة أوراق التي تصدر عن إقليم شرق الدلتا الثقافي الدقهلية)
أدب المقاومة من الآداب الموغلة في القدم ؛ لكن مصطلح (أدب المقاومة) من المصطلحات الحديثة التي ظهرت إبان الحرب العالمية الثانية (1939م- 1945م) , وتمثل ذلك في مختلف فنون الأدب في الشرق والغرب , ومن ذلك أشعار حسان بن ثابت الأنصاري (563- 674 م ) , وكتابات زكي مبارك (1895م -1952م) , وكتابات الأديب الدقهلاوي (أحمد حسن الزيات) المولود في دميرة مركز طلخا عام 1896م والمتوفي عام 1968م الذي أحرز إجازة الحقوق الفرنسية وكتب عن سقوط باريس في مايو 1940م كما كتب الأديب الشاعر محمد محمود عبد العال في شعر المقاومة وهو من أبناء تمي الأمديد دقهلية , والروائي فؤاد حجازي له باع كبير في هذا المجال حيث كتب : جبال ورصاص , والأسرى يقيمون المتاريس , والمحاصرون , والرقص على طبول مصرية , والمجموعة القصصية : سلامات , ومجموعة : (تعظيم سلام) للطلائع ... وكتب الشاعر إبراهيم رضوان العديد من أغاني المقاومة , وهناك الأفلام والمسلسلات الإذاعية , والتلفازية , والأعمال المسرحية التي تتخذ المقاومة موضوعا لها والقائمة طويلة ...
الذبيحة
ومن الأعمال الإبداعية الحديثة التي تصب في نهر المقاومة رواية بعنوان : " الذبيحة " للروائي (عطية زهري) [1] صادرة عن دار المغربي للطباعة والنشر عام 2009م . والرواية ترصد جانبا من أحداث الحرب العراقية من بدايتها , كما تصور أجواء المقاومة العراقية ضد الاستعمار الأمريكي الذي يتلون كل يوم ألوانا ليستخفي بأغراضه عن عيوننا , ويخدعنا عن حقيقته وحقيقتنا , فهو غزو حضاري – فيما يزعم أهله – لنشر العمران , وتارة أخرى هو كفاح إنساني لتحرير الرقيق من نير السادة , وأسلوب من أساليب الاقتصاد , يرمي إلى السيطرة على البلاد , لاحتلالها سياسيا , واستلاب أموالها , وإنشاء الشركات ذات السيادة لمزاحمة البلاد في سيادتها على مصادر الإنتاج , وقد ظهر كل ذلك في (العراق) مع دعوة لنصرة الشعب العراقي المضطهد , وراح الاستعمار الأمريكي يعمل على القتل , والتدمير , والسلب , والنهب , والتعذيب , وإذلال المواطنين في ديارهم , وامتلاك ما بأيديهم , وما تحت أرجلهم , كأنما يريد أن ينال ثأرا قديما من الأمة التي نقلت إليهم الحضارة منذ أربعة عشر قرنا من الزمان .
أضواء على الذبيحة
الرواية تفتح النقاش حول العديد من النواحي : السياسية , والفكرية , والاجتماعية , والثقافية ... كل ذلك يتم من خلال السرد الروائي المكثف , والتفكير المنطقي , والنظرة الموضوعية , والحوار الهادئ الهادف بعيدا عن الفكر الهابط المتدهور , والصراخ العالي الذي يطرد ماعداه , ويوالي من والاه , ويعادي مَن عاداه رغم السير وسط الأشواك , والإبحار وسط الأنواء , وأمام شلال الأسى المسكوب في الأعين ، والأسلوب الروائي سلس , والعبارات هينة لينة تتجنب العنف اللفظي والتوتر , والاحتقان , وثقافة الإقصاء , والتكفير والتخوين , وليس في النص ما يناقض الطبع الإنساني أو ما يؤسس لثقافة العجز , فالكاتب ينقب في مكانز اللغة ورحابها الفساح , يهب المتلقي الجديد من الثراء والشمول , والرواية تستمد عنوانها من موضوعها , فالعراق هي (الذبيحة) التي تنزف شلالا من الدماء . ويدور فيها الصراع بين الحلم والواقع , وهي القمر الذي يتهادي لا يعرف وجهته , لكن (المقاومة) هي الشاهد الذي لاترد شهادته , الشاهد الذي يدافع عن الأرض , والعرض والهُوية التي يؤمن بها , وينتمي إليها , فالدفاع عنها مطلوب بكل ما في عناصر هذه الهوية من ثوابت : التاريخ , واللغة , والقيم , والآداب العامة , والأرض , التي تمثل وعاء الهوية والمواطنين , فهويتنا قبل أن نكون لسانا ننطق به فهي عقل نفكر من خلاله . يحمل المؤلف الكاميرا ليصور لنا مآتم الأضواء في (العراق) , والشعاع الغارب المتراشي, ورجفة النخيل , وصوت الأعاصير , وهجرة الطيور , وقهقهات الرعود , وصهيل الخيول , وآلاف العيون العراقية التي لا تعرف المستحيل , يصعد السرد فوق المآذن , ويتجه إلى طرق الرحيل , يسجل بطولات المقاومة , فترى الناس سكارى وما هم بسكارى , يواجهون الهجوم الهجوم الأمريكي الشرس , فيطرح كل ذلك أسئلة تبقى في القلب مرارتها , وفوق اللسان أشواكها , تبقى كلما جاء ذكرها , وخطر بالذهن هولها , وكل هذه الأمور ركائز لرؤية الملتقي لهذا العمل الفني .
أمة تحتضر
وفق المؤلف في تقديم رؤية بصرية لما يحدث في (العراق) سواء أكان ذلك على الأرض أم في سجون المحتل كسجن (أبي غريب) , ثم انطلق المؤلف من هذه الرؤية إلى استبطان جوهر الأحداث . تقول البطلة المحورية (لالا) وقد عضت بالشر وضريت به , تخاطب زميلها (توم) في البنتاجون : (نحن في معركة أشرس وأشد من المعارك الحربية في الميادين العسكرية «توم» , إنه صراع حضاري دام , والأنموذج الأقوى سوف يكون له البقاء ) ص44 . وص 157 نقرأ : هال (لالا) أن تعلم أن الضّابط المكلف بالقبض على (المغيرة) هو (شارل) ... وفضلت أن تتابع الأحداث عن كثب ؛ لتقرأ ما يمكن أن يكون له قيمة إنسانية حقيقية من وراء كل الأحداث . ويهمي السرد بإشعاعه من خلال الكلمة فيعلمنا قيمة الانتماء الإيجابي للوطن , الانتماء الذي يدل على الفعل , ويدفع إلى المشاركة , ويدعو إلى المبادرة , ويناوش الغائب والحاضر , في تجربة حق ويقين , توجه القلب والعقل معا , بروح وثابة تحشد في ثنايا الكلمات طاقة الوطن , وتركز على هذه الطاقة . والبطلة (لالا) تبدو في حالة عجيبة من الفرحة والسعادة ؛ لأنها على موعد مع (شارل) ليدخلها سجن (أبي غريب) لتشاهد ما به , وترى فيه هؤلاء المساجين الذين كانت تصفهم بالرعاع من الذين يتصدون للمارد الأمريكي (ص 182 ) . ولغة السرد ثرية معبرة , فقد قبض أفراد المقاومة على (شارل) الذي : (أساء الصنيع فيما فعل , وأتى نُكرا , وفعل قبيحًا , وجاء أمرا إدّا ) ص 237 , وتقدم (لالا) فدية لإطلاق سراح (شارل) ص 238 فتقول : (كان لابد أن أكفر عن هذا الخطأ , ولا ذنب لمن أقر , ولقد صبرت على ما كان منك , ولبسته على خشونته , وشربته على كًدرته , وطويته على ما فيه , وتغاضيت عن جرمك , وتجاوزت عن هفواتك وهناتك , واغتفرت جرائمك وما فرط منك في حق (العراق) وأبنائه , ونسائه , فجعلت ذنبك تحت قدمي , وأقلت عثرتك , ومننت عليك , وتغمدت ذنبك ) ... لقد انضمت (لالا) لأفراد المقاومة العراقية وهي الأمريكية العاملة في البنتاجون , وراحت تذود عن كرامة جريحة لأمة تحتضر .
[1] المؤلف من مدينة شربين دقهلية , ومن أعماله الإبداعية : فوق القمة , الأستاذ علام في سور الدخان , المهندسة , بائعة الجعارين , مشكاة الهم القيم , غزة الخيط الغليظ .
