من تجليات الخطاب الشعري
أمين مرسي ([1])
إذا كانت اللغة – وهى مادة الخطاب عموما – أقوى مظهر للملكية الجماعية الشائعة , فأنها هى التى تحفظ كيان الأمة , وتحقق قوميتها , وتكاد ترسم حدودها , إنها قد تصبح الوطن الذى نسكنه , وروح الجماعة التى نحيا بها , لكننا سرعان ما نجنى عليها بالاستهلاك والإرهاق , والتمجيد , والتنميط . سرعان ما نحيل اللغة إلى قوالب محفوظة متصلبة , وعبارات مكررة , لا ينقذها من أيدينا , ويرد لها عافيتها , وشبابها , ونضارتها البكر سوى الشعراء , فهم اللذين يعيدون تخليقها , وشحنها بالطاقة المتجددة , وهم الذين ينفثون فيها وهج الحياة , ويحققون تاريخ الوجود الإنسانى الخلاق . ([2]) والنماذج الشعرية التى بين أيدينا لعدد من شعراء (كفر الشيخ ) هى نماذج لنجاح اللغة فى بلورة تجارب الحياة . والنماذج التى نتوقف عندها ليست حصرية , بمعنى أن هناك عددا آخر من شعراء هذه البؤرة الإبداعية نجحت أعمالهم فى تقديم تجليات باهرة لهذا الخطاب . ولسوف تصدر لنا دراسة حول إبداعهم – ان شاء الله – فى كتاب . ومن شعراء (كفر الشيخ)يأتي الطبيب المبدع
* الشاعر(محمد محمد حسن )([3]) الذى يرفض الهزيمة والاستسلام من خلال نضال الشعر والإحساس بالواقع التاريخي والإنساني , فله قصيدة بعنوان : (رسالة سلام من العم سام )يعلن فيها رفضه لاحتلال العراق ويصب جام غضبه على الاحتلال الأمريكي للعرق من خلال خطاب متدفق , يرفض الاسترخاء على عرش الكلمات ؛ لكن القصيدة طويلة ولا يتسع المقام هنا للغوص فى دلالتها الفكرية أو الوجدانية . وشاعرنا له إبداع وجدانى بذل له خالص قلبه , وسقاه من ماء معين جار عذب , ومن ذلك النبع تأتى القصائد : ( أهفو لوجه مريم – مشاعر مفخخة – العصفورة المهاجرة – أغلى حبيباتى ([4]) والقصيدة الأخيرة يفصح فيها شاعرنا عما يريد أن يقوله دون ترميز؛ حتى تكون الصورة مفهومة ونراه يستفرغ كل وسعه وطاقته فى قصيدته ؛ ليخفف بها عن صدره , ويروح بها عن نفسه فيقول :
أزف القلب إهداء تعلقه على صدر وروى البرعم الظامى إلى نور بأعماقي شعاع لاح من نور | | إلى أغلى حبيباتي سقاني حلو (كاساتى) حنانا وابتسامات يضيء الأمس والآت كمصباح بمشكاة |
وشاعرنا يستخدم ألفاظا دالة , فالكأس : القدح مادام فيه الخمر , وهى مؤنثة , والكأس : الخمر نفسها , وفى التنزيل العزيز: "يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم " ([5]) وجمع الكأس : أكؤس , وكؤوس , ويستعار الكأس فى جميع دروب المكاره ([6]) فيقال : سقاه كأسا من الذل والفرقة والموت . وجاء شاعرنا بكلمة (حلو) قبل كلمة كأس حتى لا ينصب التفكير لدى المتلقي على الدلالة اللغوية الأخيرة . وهكذا يتحرك المعنى , وتتنوع حقول الدلالة فى القصيدة , وتبقى المرأة هى الرمز الدال على الخصوبة حتى لو كانت هذه المرأة من سراب أو خيال . والحضور الأنثوي البديع يولد نشوة تشارف عوالم الروح عند أهل الوجد والتصوف , وتملأ كيان المبدع بأنموذج واحد يلخص جنس النساء , ويوجز مفاتنهن , وهو ما يفضى فى النهاية إلى لون من التماهى والتوحد بين الإحساس النابض بعشق البهاء الأنثوى والفيض الإبداعى للشعر . وليس افتتان الشعراء بالنساء سوى نشدان متحرق للتوحد بعوالم الجمال فى تجلياتها الطبيعية والفنية ([7]). والمرأة هنا تلح على حركة المعنى فى جمل موحية , وتشيع ألفاظ : النور , الشعاع , الضوء , المصباح , المشكاة . ويستلهم شاعرنا النص القرآنى بصوته وإشعاعه وصداه حين يهتف : (كمصباح بمشكاة ). وفى التنزيل العزيز : (مَثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة ) ([8]). والمشكاة لغة : كوة فى الحائط غير نافذة , يوضع فيها المصباح ,وما يحمل عليه أو يوضع فيه القنديل أو المصباح . وأبيات القصيدة تلح على الإهداء باستخدام حرف الجر (إلى ) الذى يفيد الغاية . يقول الشاعر : إلى أغلى حبيباتى – إلى نور بأعماقى , و :
إلى روح مغردة تحلق فى سما ذاتى
ويختم قصيدته بقوله :
لها أزهى فتوحاتى سنا روحي شذا ذاتى | | لها نصري وراياتى إلى أغلى حبيباتي |
ولشاعرنا قصائد على أوزان الشعر الحر (شعر التفعيلة ) , وله دراية بموسيقى القصيدة العمودية وما يطرأ عليها من تغيير فى الإيقاع الشعري , وله قصيدة بعنوان : (صرخات الجثة فى المشرحة ) تحفل بالصور المبتكرة , والخيال الواسع , والأسلوب الشفيف الفائر بعطاء الروح.
النيل والشعر
النيل منذ آلاف السنين له خيره وبره , وسحره , وشعره , وأساطيره , وأمثاله , يحمل ذاكرة الأمس والهمس , هصره الشعراء هصرا , وعصره الكتاب عصرا , ومازال النيل قادرا على العطاء , يوظفه الشاعر فى قصائده ويسلط عليه الأضواء . والنيل لغة : نهر مصر والسودان , وقد يرد البحر ويقصد به النيل . واليم : البحر الهائل, والمصريون يقولون فى النيل : بحر النيل . والبحر لغة : الماء الواسع الكثير ويغلب فى الملح ([9]) وللشعراء اهتمام بالنيل وما يتعلق به , يظهر ذلك فى قصائدهم فينبلج كالفجر مغازلا طهارة الندى والمدى , ويسرى كالعبير فى واحة الظل الوارف .لهذا فإنى أسارع بقطع الحديث مفسحا الوقت.
* للشاعر(سعد محمد سعد الخولى ) ([10]) فهو فى قصيدة بعنوان : (حنين وعتاب) يقول :
و(نيلُك) أنشودةُ للحياة وعِقدٌ موشّي بغالى الدُرر
وفى قصيدة بعنوان : (حديث العشق) يهتف : (فيا أنت ... يا (بحر)ُ , يا ثغرُ , يا سحرُ , يا شقشقات ندية ... ) وفى قصيدة بعنوان : (وجهٌ على ضفاف النيل والليل يقول) :
عيناك و (النيلُ) والهمسُ الجميلُ هنا
كأنه لم يعد فى الكون إلانا
(فالموجُ) يجرى وراءَ (الموجِ) يلثمُهُ
والزهرُ صفقَ , والنّسْرِين غنانا ([11])
وشاعرنا يستغنى عن فضول القول مما لا فائدة فيه من الكلام , يستنفر الطهارة لتكون النفس الإنسانية فى مكان الصدارة , وله مشاعر شفيفة , تروّى ظمأه من الشعر وتذهب غلته , وتشبع فى المعرفة رغبته ولقد أصاب شاكلة الصواب بكلام رقيق الحواشى وأسلوب متخير اللفظ لطيف المعنى منه قوله :
والفلك تختال فوق (الماء) تحملها
كفّ الإله , فَجَلّ الله مولانا
وقوله:
يا (نيل) ما ضرنا زمن أساء لنا
والآن يبهجنا أنسا وإحسانا
وقوله :
عيناك و(النيل ) والليل الجميل ونا
عسات ورد ندى , ثم قلبانا
وللشاعر قصائد عليها أثر الغنى , وبهاؤه منها : إغفاءة – ما بعد الغربة – إلى شاعر – شيئ من الحلم (غزلية فى حكاية ) – حديث العشق – لا تلوموا الخريف – قرار ... وأشعاره تكسر رتابة العلاقات المتراكمة المترسبة فى أعماق الإنسان وتعيد صياغتها مع تشكيل وتفجير لينبوع الالتقاء بين الداخل والخارج . وشاعرنا هو الشاعر بالألف واللام . وإنه لصاحب مكانة وتمكن فى الشعر , وإنه لفى منبت صدق , ويستحق دراسة وافية عن شعره ؛ لكن ضيق المساحة المخصصة لنا فى هذه الدراسة تحول دون ذلك .
* والشاعرة ( وفاء صبحى على ) ([12]) فى قصيدة لها بعنوان : (مدار بنقش المساء ) ([13]) توغل فى أسلوب مشرق المعانى , محكم الأداء , متناسق الأجزاء , أخذ بعضه بأعناق بعض . تقول : (وحولى رءوس دموع / تغوص وتطفو / فى "نهر" تراب ) والقصيدة فيها شموخ جليل , وتواصل مستمر مع المتلقى وتربة خصبة تنبت الزهور . وفى قصيدة بعنوان : (دمية بملامح مدينة ) تقول: (اطفئ نباح الظل , واخرج من نزفك الأنيق تهدم نعاس الموج ) . وتختم القصيدة قائلة : (فالآخرون انطفاء / وأنت النار والماء / أنت النار والماء ). هكذا تدور الكلمات عن الماء فى الرأس كدوامة صاخبة , تصل إلى أغوار السكون فينا فتبدده . وشاعرتنا تجيد القصيدة المطولة , والتوقيعة الموجزة , وتعرف كيف تسكب رحيق تجربتها الإبداعية فى كلا الإطارين دون تعسف أو مبالغة أو إسراف . وفى قصيدة بعنوان : (آدم) تقول : (أرى يديك مبحرة / كالصبح فى خبايا مداي )وفى قصيدة : (عزيزى الكونت دراكولا ) تهتف : (إنه دراكولا / يسن الناب فى أرض أكل الطير شمسها / سكانها لا ينزفون دما وإنما ماء ) . ثم تقول : (مازال الجرح يستطيل فوق أرصفة النهر ) والنص مسكون بالإيحاءات والتأويلات , والدلالات . وفى قصيدة : (الهواء الأخير ) تقول : (سيدى : لك الآن امرأة تراود الرحيل / أقسم سميتك المستحيل / أراك تحيك قطع "الماء" ) ؛ لكن هذه المرأة تتحول فى ختام القصيدة إلى : (امرأة تمنح "الماء" المسحور لوجهك ) وهكذا تنفذ شاعرتنا إلى مسالك الروح حين تسبح فى مياه جديدة , ونهر جديد مشحون بالعواطف .
* والشاعر (أحمد اللاوندى ) فى قصيدته (نورا) يبدو نصه بعيد الأثر شديد الخطر حين يهتف : (أغنيكِ , وأمرح فى تجليكِ "كماء البحر" حين يزف للشط ) وتمضى القصيدة تفتح لنا شرفات العشق ( أنا الظمآن فاسقينى / من الشفتين أنساما توحدنا ) و (دعينى أحتسى عشقا )و (أغنيكِ وأمرح فى تجليكِ / لأنهل منك شطآنا تطهرنى من الأحزان ) ويختم قصيدته بقوله عن طلعة الحبيبة : (وأشهد أنها سيل من الرحمات ) ومن خلال ( البحر) وما يتعلق (بالماء )من مفردات تمضى القصيدة إلى هدفها المنشود دون أن تحرم الشعر من كثافته أو استهدافه للمعانى النبيلة , التى تدلف إلى رحاب النفس وتقف عند حدود النغم والإيقاع فنشعر بإحساس موسيقى عارم مفعم بالحضور المكثف , متوج بالعاطفة الجياشة والصدق الفنى , والعذوبة الآسرة .
مكابدة حارقة
* والشاعر (محمد شريف عثمان ) الشعر عنده مكابدة حارقة , وثورة وتفجير , وصيغة لإعادة تركيب العَلاقات الإنسانية , والشاعر المُجيد ما حسن شعره فى لفظه ورق معناه , وفى ديوانه : (للقدس أغنى , يوميات مواطن فلسطينى) الصادر عن دار بلال للطباعة والنشر عام 2005 يحتج شاعرنا على تكدس الرتابة , ويقوم بتأدية دوره فى مواجهة الجمود , والسكون فى الحياة , والانهيار , والانعزال. وفى قصيدة بعنوان (جدار الخوف) بديوانه يقول : ( ولو "ظمأ" يصيبُ "الماءَ" بالشطآن يتقد / لكان الوقعُ أهونَ من أسانا , وما يجرى لنا الآن ) . ([14] ) والفعل ظمئ يعنى : عَطِشَ أو اشتد عَطشُه , وشاعرنا يحلق بنا فى الآفاق مع (الظمأ) الذى يصيب الماء , وفى لغتنا الجميلة يقال : ظمئ إليه : اشتاقه , فهو ظامئٌ , وظمئٌُ , وهو ظمآن , وهى ظمأى وظمآنة والجمع ظِماءٌ , ويقال : وجهٌ ظمآنُ : قليل اللحم لزقت جلدته بعظمه . ويقال : ريح ظمأى : حارة ليس لها ندى , وعين ظمأى : رقيقة الجَفن , وساق ظمأى : قليلة اللحم ([15]) والمعنى المراد من الشاعر أصاب كبد الحقيقة , وألبس لكلِّ حالة لبوسها , واتخذ لها ما يوائمها ويوافقها . وفى قصيدة بعنوان : للقدس أناجى وأغنى يقول : ( القدس شباب يتطهر/ يتوضأ من نهر الكوثر / ويغنى آت كي أثأر ) ([16]). ونهر الكوثر نهرٌ فى الجنة , والكوثر من الكثرة , وهو الخير الكثير فى الدنيا والآخرة ([17]) وفى نفس القصيدة يقول شاعرنا : ( القدس صليل الطعنات / نهر مملوء عبرات, وقباب تنزف حسرات/ عن مجد ضاع وضيعنى ) ([18]) والقصيدة من عيون الشعر , وغناء شاعرنا فى ديوان كامل للقدس شاهد صدق على قدرته اللانهائية على الإبداع وتجدد الكتابة مرة بعد أخرى تماما كطائر (الفينيق) الخرافى الذى يخرج من النار رمادا لا يلبث أن يتشكل من جديد طائرا جميلا زاهى الريش صداح الغناء . وفى قصيدة بعنوان : بأى آلاء الغرام أعذب يقول : (هل يشعل الصدر الحزين سوى ارتعاشة لحظة / ذابت على وجه السنين / إذ فى كلام " النهر " للأشجار موال/ يقص الآن يا بلدى بداية قصتى ) ([19]) . والشاعر يوظف هنا (النهر) ليتعامل من خلاله مع وعى المتلقى حتى يغير فيه , ويعدد من نظرته لماضيه ومستقبله . وفى قصيدة (لمن أغنى ؟) يهتف : (أنا من ترابك حفنة / أومن "بحارك " قطرة / ممزوجة بالفرحة ) ([20]) ويستمر تفعيل الوعي (بالنيل) فى قصائد الشعراء فالشعر صرخة التاريخ فى وجع الولادة .
* والشاعر(حميد المصرى )يترجم مشاعره فى صور شعرية رسمها بمهارة واقتدار , ولغة حية طازجة متوهجة , وفى قصيدة بعنوان : (قلبان ) يقول : (قلبك طفل عاق , جائر / يقتات بأعشاب الحرمان , ويشرب من (أنهار) الظمأ / وخلف عيون الليل يهاجر ). والشاعر هنا هو العازف فى كامل عدته ومهارته , يعرف كيف يوقع على أوتاره بدرجات حضوره الشعرى , يتصاعد درجة بعد درجة , وطبقة بعد طبقة حتى نخشى على الأوتار أن تنقطع . وفى قصيدة بعنوان : (فصام )يقول شاعرنا : (حين اقترب " الماء" /لكزتنى عصاه ... فصحوت / لكن النائم فى صدرى لم يستيقظ / غرقت فى "بحر" عيونك عيناه ... فطفوت) ([21]) ويحملنا الشاعر من نكأة جرح إلى سخرية مقام , فى أداء غامر يتراوح بين قرار الهمس وجواب الجهر , وشاعرنا يحمل بين جوانحه شاعرية متوهجة واخزة , يطارد بها الحرف المتمرد فى ألفاظه ومعانيه , وأوزانه وقوافيه , فالشعر عنده جواد يعبر جسر المسافات , وصوت ندى يعتصر كيان الإنسان , ويذكرنا بالشاعر اللبنانى (جوزيف حرب) الذى عبر عن دور الشعراء بقوله : ( لا دور للشعراء إلا أنهم قد أشعلوا الفانوس / كي يخرجوا الكلمات نحو شموسها /من عتمة القاموس) . وفى قصيدة : (استلاب) يهتف : ( استمسك "بالماء" فأطارته الأمواج لأعلى عليين / وحين استلبته عيون الكرْم / اعتصرته الأيام /... فتدلى أذنا من نار والأخرى من طين ). والألفاظ هنا قليلة لكنها تؤدى المعانى الكثيرة , وبعبارة أدق : العبارة موجزة ومعناها كثيف , والإيجاز نوع من البلاغة ؛ولهذا قيل :( البلاغة الإيجاز) ؛ لأنها تدل على فصاحة الشاعر, وتثير العقل وتحرك الذهن , وبذلك يزداد الأسلوب جمالا وكمالا ,ويمتع النفس والروح والعقل . وفى قصيدة (كيوبيد) ([22]) يقول شاعرنا : (من بين سطور "الماء "المترقرق / تنداح الأمواج العطشى / عن أسراره ) . وفى قصيدة : (حوار) : (استمع " البحر" فقالت أمواجه / لعن الله الفاقه ...) وشاعرنا يصنع من قصيدته لوحة فنية , بعد أن صهرته أحزان القلب وانكسارات الواقع فنجح فى تلوين إبداعه بذلك الحزن النبيل و تلك المحبة التى لا ضفاف لها . وتستمر رحلة النهر والماء , تكشف الصبوات , والجلوات , وتبحر فى وجدان الشعراء من ضفة إلى أخرى دون أن يضيع الصوت أو يتبدد .
* ومع الشاعر (عبد الرحمن داود )نرحل مع عراقة النفس الشعرى , وجموحه , وانطلاقه , وحرصه على الإيقاع الموسيقى المكافئ للإيقاع النفسي , ففى قصيدة بعنوان : (حديث الخروج ) يقول : أعود إليك ملتحفا بثوب العمر قيثارى /فلم تبق الرياح سوى / صدى ضوء / على " الأمواه" يأسِرنى ) ([23])والماء كما نعلم سائل عليه عماد الحياة فى الأرض , والجمع مياه وأمواه . والماه : الماء . والشاعر استخدم جمع الماء : (الأمواه) ليعطى إيقاعا جديدا لشعره, ولك أن تلمس هذا الزخم الفوار فى شعره بما فيه من إفضاء النفس الإنسانية , ثم استمع إلى قول شاعرنا فى قصيدة بعنوان : (بوح المخاض) حين يهتف : ( غروبك دوح سليب هواه / و "بحر" يراوغ حلما )أو حين يقول : ("والنيل" يصغى هائما ) فى قصيدة بعنوان : (شريانها المد ) حيث تتجلى موهبة الشاعر فالهُيام : الهَيام وأشد العطش , والجنون من العشق ,والهيمان : العطشان أشد العطش , والمحب الشديد الوجد ,والصور الشعرية لدى شاعرنا تشير إلى أنه يَخُلُق ثم يَفْرى أى أنه يقرر الأمر ثم يمضيه , فيحدد له إيقاعه الخاص , واللون المميز , يرفده توقد الذهن , وسعة الأفق , وهو فى قصيدة بعنوان : (عزف مزقته الأضرحة ) أهداها إلى روح صديقه الشاعر (سعد محمد شحاتة ) يقول: ( مكتوب فى أمشاج الدهشة أنا نرحل / خلف زحام اللون الأزرق / نتسامر فوق ضفاف "النيل" "وسعد " يغنى / يرسل طفل الوجد ويغفو / ثم يوشوش فى ضجر سيل النوبات/ وعلى "النيل" يهرج نضحك / نبكى ) . والمطابقة الفنية هنا اقتضتها الفكرة , ولم يجلبها شاعرنا لمجرد الصنعة , والمعروف أن كل مطابقة لها جمال خاص بها , ويتضح ذلك بما تضفيه على الكلام من دلالات ومشاعر , وجمال الطِباق فى قوله :(نضحك – نبكى ) نابع من عرض الشاعر الذى قدمه فى نسق مؤتلف يثير الإنتباه إلى الفكرة , ومن هنا اشتد رسوخها فى النفس , وازدادت الفكرة وضوحا , وقديما قالوا : (إن الأضداد يظهر بعضها بعضا ), وهذا ما أومأت إليه المقدمات , وشفت عنه القرائن . فنحن أمام كلمات مشحونة بالحزن الصادق الدالة على هول الفاجعة , وشدة الحب للصديق الراحل , وهل يستطيع الشاعر المخلص أن يقاوم الأسي ؟ والموت نقاد على كفه الجواهر , وحين يختار , فإنه يختار منها الجياد . هكذا ارتبط "النيل" هنا بالرثاء مع الحزن الذى كحل عينى الشاعر , فذاب فى آفاقه , وتردد فى أصداء روحه , فقام بنقله وترجمته من خلال تجربة إبداعية امتلك فيها زمام الإيقاع ومضى بشعره على رسله فأشبعنا وأمتعنا .
* والشاعر (سليمان الأطير) ينظم الشعر الفصيح والعامى و فى قصيدته (ضمير حى) يهتف : (ملاح وماله سفن مال الشراع منه / يا راكبين "البحر" ميلوا عليه منوا )([24])وقصيدة الشاعر التى اخترنا منها هذين البيتين هى مفتاح لشعره الذى يخطو فى تؤدة ورفق ليلامس أغشية القلوب . ويبقى "النيل "شامخا فى شعر الشعراء , يغترف الشاعر من معينه , فالشعر جواز مرور من لغط الظلمة والظلم , والاغتراب والاستلاب . وهو جواز حضور إلى الذاكرة , ونور يفيض ولا ينتهى بالخطى العاثرة , نعُب من خمره الحلال , وننتمى إليه انتماء النماء لخرير "الماء" ,وهو بهاء التسامى الذى يفوق ما نشتهى . والشعر الحقيقى هو الصوت الذى يهتز له الفؤاد بين الضلوع , فيشهر حلمه , ويوشى الروح بالسكينة .
...........................................................................................
[1] أمين مرسى : ليسانس آداب - لغة عربية ودراسات علا – جامعة القاهرة , ناقد شاعر , عضو اتحاد كتاب مصر , عضو المكتب الدائم للكتاب الإفريقيين الآسيويين , ترجمت أعماله إلى البولندية المستشرقة كريستينا بكلية الآداب جامعة بولندا عام 1989 , وله عشرات الكتب النقدية والدواوين الشعرية
[2] صلاح فضل (الدكتور) : تحولات الشعرية العربية , هيئة الكتاب , مكتبة الأسرة, ط 2002 , ص 112 .
[3] الشاعر الطبيب : محمد محمد حسن : عضو اتحاد كتاب مصر وعضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية
[4] قصائد الشاعر لدينا فى أوراق لا يضمها ديوان .
[5] سورة الطور , الآية 23 .
[6] المعجم الوسيط , مجمع اللغة العربية .
[7] تحولات الشعرية العربية , مرجع سابق , ص 110 .
[8] سورة النور , الآية 35 .
[9] المعجم الوسيط , مجمع اللغة العربية .
[10] من شعراء كفر الشيخ والأشعار التى بين أيدينا لا يضمها ديوان .
[11] النسرين : ورد أبيض عطرى , قوى الرائحة , من الفصيلة الوردية , واحدته : نسرينة . وانظر المعجم الوسيط , مرجع سابق
[12] طالبة بكلية التربية قسم اللغة العربية .
[13] شاركت الشاعرة بهذه القصيدة فى المسابقة الثقافية المؤهلة لأسبوع شباب الجامعات الثامن بالمنوفية وحصلت بها على المركز الأول فى المسابقة , وعلق الأستاذ الدكتور أسامة عبد العزيز المحكم فى المسابقة بكلية التربية والآداب بكفر الشيخ على القصيدة بقوله : " من أروع ما قرأت من شعر فى الفترة الأخيرة , ولهذه (الخنساء) صوت شعري متميز "
[14] ديوان الشاعر ص 60 , وفيه : لكان الوقع (أهونُ) من أسانا . برفع خبر كان والصواب ما أثبتناه .
[15] المعجم الوسيط , مجمع اللغة العربية , جـ 2.
[16] الديوان ص 78 .
[17] ابن كثير , أبو الفداء الحافظ بن كثير الدمشقى (الإمام) ت (774هـ ) : تفسير القرآن العظيم , سورة الكوثر , المجلد الرابع , ص 888 .
[18] الديوان ص 79.
[19] ديوان الشاعر ص 87.
[20] ديوان الشاعر ص 95.
[21] الفصام لغة من قولك : فصم الشيئ يفصمه فصما : شقه , وصدعه دون بينونة , وفصم العقدة : حلها , وفصم الشيئ : حناه وقوسه .والفصام أو الشيزوفرينيا : ذهان وظيفى سمته الأساسية تفكك الروابط بين الوظائف النفسية , وانفصام الأنا عن العالم الخارجى , وانطواؤها داخل عالم من التخيلات , والأحلام , والتفكير الإجترارى . والذى أطلق لفظ فصام شيزوفرينيا لإبراز سمة التفكك هو طبيب الأمراض العقلية (بلولر) (1857 – 1939 ) وذلك عام 1911.
[22] كيوبيد : إله الحب عند الرومان , يقابله ايروس عند اليونان .
[23] القصيدة بخط الشاعر وفيها ورد الفعل المضارع يأسر بسين مضمومة (يأسُرنى), والصواب ما أثبتناه . وفى المعجم الوسيط : أسره يأسِره أسرا وإسارا : قيده وأخذه أسيرا .